الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
أحدها: ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تامًا بدون العمل الذي في القلب تصديق بلا عمل للقلب، كمحبة الله وخشيته وخوفه، والتوكل عليه والشوق إلى لقائه. /والثاني: ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تامًا بدون العمل الظاهر، وهذا يقول به جميع المرجئة. والثالث: قولهم: كل من كفره الشارع فإنما كفره لانتفاء تصديق القلب بالرب ـ تبارك وتعالى، وكثير من المتأخرين لا يميزون بين مذاهب السلف وأقوال المرجئة والجهمية؛ لاختلاط هذا بهذا في كلام كثير منهم، ممن هو في باطنه يرى رأي الجهمية والمرجئة في الإيمان، وهو معظم للسلف وأهل الحديث فيظن أنه يجمع بينهما، أو يجمع بين كلام أمثاله وكلام السلف. قال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي:وقالت طائفة ثالثة ـ وهم الجمهور الأعظم من أهل السنة والجماعة،وأصحاب الحديث ـ:الإيمان الذي دعا الله العباد إليه وافترضه عليهم هو الإسلام الذي جعله دينًا وارتضاه لعباده ودعاهم إليه،وهو ضد الكفر الذي سخطه فقال: قال: وقد ذكرنا تمام الحجة في أن الإسلام هو الإيمان، وأنهما لا يفترقان ولا يتباينان في موضع غير هذا، فكرهنا إعادته في هذا الموضع كراهة التطويل والتكرير، غير أنا سنذكر من الحجة ما لم نذكره في غير هذا الموضع، ونبين خطأ تأويلهم، والحجج التي احتجوا بها من الكتاب والأخبار على التفرقة بين الإسلام والإيمان. قلت: مقصود محمد بن نصر المروزي ـ رحمه الله ـ:أن المسلم الممدوح هو المؤمن الممدوح،وأن المذموم ناقص الإسلام والإيمان، وأن كل مؤمن فهو مسلم،وكل مسلم فلابد أن يكون معه إيمان، وهذا صحيح، وهو متفق عليه،ومقصوده ـ أيضًا ـ أن من أطلق عليه الإسلام أطلق عليه الإيمان،وهذا فيه نزاع لفظي،ومقصوده أن مسمى أحدهما هو مسمى الآخر،وهذا لا يعرف عن أحد من السلف.وإن قيل:هما متلازمان، فالمتلازمان لا يجب أن يكون مسمى هذا هو مسمى هذا، وهو لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا أئمة الإسلام المشهورين أنه قال:مسمى الإسلام هو مسمى /الإيمان كما نصر،بل ولا عرفت أنا أحدًا قال ذلك من السلف،ولكن المشهور عن الجماعة من السلف والخلف أن المؤمن المستحق لوعد الله هو المسلم المستحق لوعد الله، فكل مسلم مؤمن،وكل مؤمن مسلم،وهذا متفق على معناه بين السلف والخلف بل وبين فرق الأمة كلهم يقولون: إن المؤمن الذي وعد بالجنة لابد أن يكون مسلمًا،والمسلم الذي وعد بالجنة لابد أن يكون مؤمناً، وكل من يدخل الجنة بلا عذاب من الأولين والآخرين فهو مؤمن مسلم. ثم إن أهل السنة يقولون: الذين يخرجون من النار ويدخلون الجنة معهم بعض ذلك، وإنما النزاع في إطلاق الاسم،فالنقول متواترة عن السلف بأن الإيمان قول وعمل،ولم ينقل عنهم شيء من ذلك في الإسلام، ولكن لما كان الجمهور الأعظم يقولون:إن الإسلام هو الدين كله، ليس هو الكلمة فقط خلاف ظاهر ما نقل عن الزهري، فكانوا يقولون:إن الصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك من الأفعال المأمور بها هي من الإسلام كما هي من الإيمان،ظن أنهم يجعلونها شيئًا واحدًا، وليس كذلك،فإن الإيمان مستلزم للإسلام باتفاقهم،وليس إذا كان الإسلام داخـلاً فيه يلزم أن يكون هو إياه، وأما الإسلام فليس معه دليل على أنه يستلزم الإيمان عند الإطلاق،ولكن هل يستلزم الإيمان الواجب أو كمال الإيمان؟ فيه نزاع، وليس معه دليل على أنه مستلزم للإيمان ولكن الأنبياء الذين وصفهم الله بالإسلام كلهم كانوا مؤمنين، وقد وصفهم الله بالإيمان ولو لم يذكر ذاك عنهم فنحن نعلم قطعًا أن الأنبياء كلهم مؤمنون. / وكذلك السابقون الأولون كانوا مسلمين مؤمنين. ولو قدر أن الإسلام يستلزم الإيمان الواجب، فغاية ما يقال: إنهما متلازمان، فكل مسلم مؤمن، و كل مؤمن مسلم، وهذا صحيح إذا أريد أن كل مسلم يدخل الجنة معه الإيمان الواجب، وهو متفق عليه إذا أريد أن كل مسلم يثاب على عبادته، فلابد أن يكون معه أصل الإيمان فما من مسلم إلا وهو مؤمن، وإن لم يكن هو الإيمان الذي نفاه النبي صلى الله عليه وسلم، عمن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وعمن يفعل الكبائر، وعن الأعراب وغيرهم، فإذا قيل: إن الإسلام والإيمان التام متلازمان لم يلزم أن يكون أحدهما هو الآخر، كالروح والبدن، فلا يوجد عندنا روح إلا مع البدن، ولا يوجد بدن حي إلا مع الروح، وليس أحدهما الآخر، فالإيمان كالروح، فإنه قائم بالروح ومتصل بالبدن، والإسلام كالبدن، ولا يكون البدن حيًا إلا مع الروح، بمعنى أنهما متلازمان، لا أن مسمى أحدهما هو مسمى الآخر، وإسلام المنافقين كبدن الميت جسد بلا روح، فما من بدن حي إلا وفيه روح، ولكن الأرواح متنوعة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) وليس كل من صلى ببدنه يكون قلبه منورًا بذكر الله والخشوع وفهم القرآن وإن كانت صلاته يثاب عليها ويسقط عنه الفرض في أحكام الدنيا فهكذا الإسلام الظاهر بمنزلة الصلاة الظاهرة، والإيمان بمنزلة ما يكون في القلب حين الصلاة من المعرفة بالله والخشوع وتدبر القرآن، فكل من خشع قلبه /خشعت جوارحه،ولا ينعكس؛ ولهذا قيل: إياكم وخشوع النفاق، وهو أن يكون الجسد خاشعًا والقلب ليس بخاشع، فإذا صلح القلب صلح الجسد كله، وليس إذا كان الجسد في عبادة يكون القلب قائمًا بحقائقها. والناس في [الإيمان] و [ الإسلام] على ثلاث مراتب: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات، فالمسلم ظاهرًا وباطنًا إذا كان ظالمًا لنفسه، فلابد أن يكون معه إيمان، ولكن لم يأت بالواجب ولا ينعكس، وكذلك في الآخر. وسيأتي إن شاء الله. والآيات التي احتج بها محمد بن نصر تدل على وجوب الإسلام، وأنه دين الله، وأن الله يحبه ويرضاه،وأنه ليس له دين غيره، وهذا كله حق، لكن ليس في هذا ما يدل على أنه هو الإيمان،بل ولا يدل على أن بمجرد الإسلام يكون الرجل من أهل الجنة،كما ذكره في حجة القول الأول، فإن الله وعد المؤمنين بالجنة في غير آية، ولم يذكر هذا الوعد باسم الإسلام. وحينئذ، فمدحه وإيجابه ومحبة الله له تدل على دخوله في الإيمان، وأنه بعض منه، وهذا متفق عليه بين أهل السنة، كلهم يقولون: كل مؤمن مسلم، وكل من أتى بالإيمان الواجب فقد أتى بالإسلام الواجب، لكن النزاع في العكس، وهذا كما أن الصلاة يحبها الله ويأمر بها، ويوجبها ويثنى عليها وعلى أهلها في غير موضع، ثم لم يدل ذلك على أن مسمى الصلاة مسمى الإيمان، بل الصلاة تدخل في الإيمان، فكل مؤمن مصل، ولا يلزم أن يكون كل من صلى وأتى الكبائر مؤمنا. /وجميع ما ذكره من الحجة عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن فيها التفريق بين مسمى الإيمان والإسلام إذا ذكرا جميعًا، كما في حديث جبريل وغيره، وفيها ـ أيضًا ـ أن اسم الإيمان إذا أطلق دخل فيه الإسلام. قال أبو عبد الله بن حامد في كتابه المصنف في [أصول الدين] قد ذكرنا أن الإيمان قول وعمل، فأما الإسلام فكلام أحمد يحتمل روايتين: إحداهما: أنه كالإيمان. والثانية: أنه قول بلا عمل. وهو نصه في رواية إسماعيل بن سعيد، قال: والصحيح أن المذهب رواية واحدة أنه قول وعمل، ويحتمل قوله: إن الإسلام قول يريد به: أنه لا يجب فيه ما يجب في الإيمان من العمل المشروط فيه؛ لأن الصلاة ليست من شرطه، إذ النص عنه أنه لا يكفر بتركه الصلاة. قال: وقد قضينا أن الإسلام والإيمان اسمان لمعنيين، وذكرنا اختلاف الفقهاء، وقد ذكر قبل ذلك أن الإسلام والإيمان اسمان لمعنيين مختلفين، وبه قال مالك، وشريك، وحماد ابن زيد، بالتفرقة بين الإسلام والإيمان، قال: وقال أصحاب الشافعي، وأصحاب أبي حنيفة: إنهما اسمان معناهما واحد. قال: ويفيد هذا أن الإيمان قد تنتفي عنه تسميته مع بقاء الإسلام عليه، وهو بإتيان الكبائر التي ذكرت في الخبر، فيخرج عن تسمية الإيمان، إلا أنه مسلم، فإذا تاب من ذلك عاد إلى ما كان عليه من الإيمان، ولا تنتفي عنه تسمية الإيمان بارتكاب الصغائر من الذنوب، بل الاسم باق عليه،ثم ذكر أدلة ذلك، ولكن ما ذكره /فيه أدلة كثيرة على من يقول: الإسلام مجرد الكلمة، فإن الأدلة الكثيرة تدل على أن الأعمال من الإسلام، بل النصوص كلها تدل على ذلك، فمن قال: إن الأعمال الظاهرة المأمور بها ليست من الإسلام، فقوله باطل، بخلاف التصديق الذي في القلب، فإن هذا ليس في النصوص ما يدل على أنه من الإسلام، بل هو من الإيمان، وإنما الإسلام الدين، كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يسلم وجهه وقلبه لله، فإخلاص الدين لله إسلام، وهذا غير التصديق، ذاك من جنس عمل القلب، وهذا من جنس علم القلب. وأحمد بن حنبل، وإن كان قد قال في هذا الموضع:إن الإسلام هو الكلمة، فقد قال في موضع آخر: إن الأعمال من الإسلام، وهو اتبع هنا الزهري رحمه الله، فإن كان مراد من قال ذلك: إنه بالكلمة يدخل في الإسلام ولم يأت بتمام الإسلام، فهذا قريب، وإن كان مراده أنه أتى بجميع الإسلام وإن لم يعمل فهذا غلط قطعًا، بل قد أنكر أحمد هذا الجواب، وهو قول من قال: يطلق عليه الإسلام وإن لم يعمل، متابعة لحديث جبريل، فكان ينبغي أن يذكر قول أحمد جميعه. قال إسماعيل بن سعيد: سألت أحمد عن الإسلام والإيمان فقال: الإيمان قول وعمل، والإسلام الإقرار. وقال: وسألت أحمد عمن قال في الذي قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم إذ سأله عن الإسلام، فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ فقال: نعم. فقال قائل: وإن لم يفعل الذي قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم، فهو مسلم أيضًا؟ فقال: هذا معاند للحديث. /فقد جعل أحمد من جعله مسلمًا إذا لم يأت بالخمس معاندًا للحديث، مع قوله: إن الإسلام الإقرار، فدل ذلك على أن ذاك أول الدخول في الإسلام، وأنه لا يكون قائمًا بالإسلام الواجب حتى يأتي بالخمس، وإطلاق الاسم مشروط بها، فإنه ذم من لم يتبع حديث جبريل. وأيضًا، فهو في أكثر أجوبته يكفر من لم يأت بالصلاة، بل وبغيرها من المباني، والكافر لا يكون مسلمًا باتفاق المسلمين، فعلم أنه لم يرد أن الإسلام هو مجرد القول بلا عمل، وإن قدر أنه أراد ذلك، فهذا يكون أنه لا يكفر بترك شيء من المباني الأربعة، وأكثر الروايات عنه بخلاف ذلك، والذين لا يكفرون من ترك هذه المباني يجعلونها من الإسلام؛ كالشافعي ومالك، وأبي حنيفة، وغيرهم، فكيف لا يجعلها أحمد من الإسلام؟! وقوله في دخولها في الإسلام أقوى من قول غيره، وقد روي عنه أنه جعل حديث سعد معارضًا لحديث عمر، ورجح حديث سعد. قال الحسن بن علي:سألت أحمد بن حنبل عن الإيمان أوكد أو الإسلام؟ قال:جاء حديث عمر هذا،وحديث سعد أحب إلى، كأنه فهم أن حديث عمر يدل على أن الأعمال هي مسمى الإسلام،فيكون مسماه أفضل.وحديث سعد يدل على أن مسمى الإيمان أفضل،ولكن حديث عمر لم يذكر الإسلام إلا الأعمال الظاهرة فقط،وهذه لا تكون إيمانًا إلا مع الإيمان الذي في القلب بالله وملائكته وكتبه ورسله، فيكون ـ حينئذ ـ بعض الإيمان،فيكون مسمى الإيمان أفضل كما دل عليه حديث سعد،فلا منافاة بين الحديثين. قال أحمد: قال لي رجل: لو لم يجئنا في الإيمان إلا هذا لكان حسنًا. قلت لأبي عبد الله: فتذهب إلى ظاهر الكتاب مع السنن؟ قال: نعم. قلت: فإذا كانت المرجئة يقولون: إن الإسلام هو القول. قال: هم يصيرون هذا كله واحدًا، ويجعلونه مسلمًا ومؤمنًا شيئًا واحدًا علي إيمان جبريل ومستكمل الإيمان. قلت: فمن هاهنا حجتنا عليهم؟ قال: نعم، فقد ذكر عنه الفرق مطلقًا واحتجاجه بالنصوص. وقال صالح بن أحمد:سئل أبي عن الإسلام والإيمان،قال:قال ابن أبي ذئب: الإسلام: القول،والإيمان: العمل.قيل له:ما تقول أنت؟ قال: الإسلام غير الإيمان، وذكر حديث سعد، وقول النبي صلى الله عليه وسلم./فهو في هذا الحديث لم يختر قول من قال: الإسلام:القول،بل أجاب بأن الإسلام غير الإيمان،كما دل عليه الحديث الصحيح مع القرآن. وقال حنبل: حدثنا أبو عبد الله بحديث بريدة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم:(السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) الحديث، قال: وسمعت أبا عبد الله يقول في هذا الحديث: حجة على من قال: الإيمان قول. فمن قال: أنا مؤمن فقد خالف قوله: من المؤمنين والمسلمين. فبين المؤمن من المسلم، ورد على من قال: أنا مؤمن مستكمل الإيمان، وقوله:(وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) وهو يعلم أنه ميت، يشد قول من قال: أنا مؤمن إن شاء الله بالاستثناء في هذا الموضع. وقال أبو الحارث:سألت أبا عبد الله قلت:قوله:(لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن،ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) قال:قد تأولوه،فأما عطاء فقال: يتنحى عنه الإيمان،وقال طاوس: إذا فعل ذلك زال عنه الإيمان. وروي عن الحسن قال:إن رجع راجعه الإيمان، وقد قيل: يخرج من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرج من الإسلام، وروى هذه المسألة صالح، فإن مسائل أبي الحارث يرويها صالح أيضًا، وصالح سأل أباه عن هذه القصة فقال فيها: هكذا يروي عن أبي جعفر قال:(لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) قال: يخرج من الإيمان إلى الإسلام،فالإيمان مقصور في الإسلام،/فإذا زنى خرج من الإيمان إلى الإسلام.قال الزهري ـ يعني ـ لما روى حديث سعد:(أو مسلم): فنرى أن الإسلام الكلمة، والإيمان العمل. قال أحمد: وهو حديث متأول، والله أعلم. فقد ذكر أقوال التابعين ولم يرجح شيئًا، وذلك ـ والله أعلم ـ لأن جميع ما قالوه حق، وهو يوافق على ذلك كله، كما قد ذكر في مواضع أخر أنه يخرج من الإيمان إلى الإسلام، ونحو ذلك. وأحمد وأمثاله من السلف لا يريدون بلفظ التأويل صرف اللفظ عن ظاهره، بل التأويل عندهم مثل التفسير، وبيان ما يؤول إليه اللفظ، كقول عائشة ـ رضي الله عنها ـ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: (سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي) يتأول القرآن، وإلا فما ذكره التابعون لا يخالف ظاهر الحديث بل يوافقه، وقول أحمد يتأوله، أي يفسر معناه، وإن كان ذلك يوافق ظاهره لئلا يظن مبتدع أن معناه: أنه صار كافرًا لا إيمان معه بحال، كما تقوله الخوارج، فإن الحديث لا يدل على هذا، والذي نفى عن هؤلاء الإيمان كان يجعلهم مسلمين لا يجعلهم مؤمنين. قال المروزي: قيل لأبي عبد الله: نقول: نحن المؤمنون؟ فقال: نقول: نحن المسلمون. قلت لأبي عبد الله: نقول: إنا مؤمنون. قال: ولكن نقول: إنا مسلمون، وهذا لأن من أصله الاستثناء في الإيمان؛ لأنه لا يعلم أنه مؤد لجميع ما أمره الله به، فهو مثل قوله: أنا بر، أنا تقي، أنا ولي الله، كما يذكر في/ موضعه، وهذا لا يمنع ترك الاستثناء إذا أراد: أني مصدق، فإنه يجزم بما في قلبه من التصديق، ولا يجزم بأنه ممتثل لكل ما أمر به، وكما يجزم بأنه يحب الله ورسوله، فإنه يبغض الكفر، ونحو ذلك مما يعلم أنه في قلبه، وكذلك إذا أراد بأنه مؤمن في الظاهر، فلا يمنع أن يجزم بما هو معلوم له، وإنما يكره ما كرهه سائر العلماء من قول المرجئة؛ إذ يقولون: الإيمان شيء متماثل في جميع أهله، مثل كون كل إنسان له رأس، فيقول أحدهم: أنا مؤمن حقًا، وأنا مؤمن عند الله، ونحو ذلك، كما يقول الإنسان: لي رأس حقًا، وأنا لي رأس في علم الله حقًا، فمن جزم به على هذا الوجه، فقد أخرج الأعمال الباطنة والظاهرة عنه، وهذا منكر من القول وزور عند الصحابة والتابعين، ومن اتبعهم من سائر المسلمين، وللناس في [مسألة الاستثناء] كلام يذكر في موضعه. والمقصود هنا: أن هنا قولين متطرفين؛ قول من يقول: الإسلام مجرد الكلمة، والأعمال الظاهرة ليست داخلة في مسمى الإسلام، وقول من يقول: مسمى الإسلام والإيمان واحد، وكلاهما قول ضعيف مخالف لحديث جبريل، وسائر أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. ولهذا لما نصر محمد بن نصر المروزي القول الثاني، لم يكن معه حجة على صحته، ولكن احتج بما يبطل به القول الأول، فاحتج بقوله في قصة الأعراب: وقد قيل: إنهم صاروا صادقين بعد ذلك، ويقال: المعلق بشرط لا يستلزم وجود ذلك الشرط، ويقال: لأنه كان معهم إيمان ما. لكن ما هو الإيمان الذي وصفه ثانيًا؟ بل معهم شعبة من الإيمان. قال محمد بن نصر: وقال الله تعالى: فيقال: أما قوله: إن الله جعل الصلاة والزكاة من الدين، والدين عنده هو الإسلام، فهذا كلام حسن موافق لحديث جبريل، ورده على من جعل العمل خارجًا من الإسلام كلام حسن، وأما قوله: إن الله سمى الإيمان بما سمى به الإسلام وسمى الإسلام بما سمى به الإيمان فليس كذلك، فإن الله إنما قال: وسائر النصوص التي تنفي الإيمان عمن لم يتصف بما ذكره، فإن كثيرًا من المسلمين مسلم باطنًا وظاهرًا، ومعه تصديق مجمل، ولم يتصف بهذا الإيمان، والله تعالى قال: قال محمد بن نصر: فمن زعم أن الإسلام هو الإقرار، وأن العمل ليس منه، فقد خالف الكتاب والسنة، وهذا صحيح؛ فإن النصوص كلها تدل على أن الأعمال من الإسلام، قال: ولا فرق بينه وبين المرجئة؛ إذ زعمت أن الإيمان إقرار بلا عمل. فيقال: بل بينهما فرق، وذلك أن هؤلاء الذين قالوه من أهل السنة كالزهري ومن وافقه يقولون: الأعمال داخلة في الإيمان، والإسلام عندهم جزء من الإيمان والإيمان عندهم أكمل، وهذا موافق للكتاب والسنة. ويقولون: الناس يتفاضلون في الإيمان وهذا موافق للكتاب والسنة، والمرجئة يقولون: الإيمان بعض الإسلام والإسلام أفضل، ويقولون: إيمان الناس متساو فإيمان الصحابة وأفجر الناس سواء، ويقولون: لا يكون مع أحد بعض الإيمان دون بعض، وهذا مخالف للكتاب والسنة. وقد أجاب أحمد عن هذا السؤال كما قاله في إحدى روايتيه: إن الإسلام هو الكلمة قال الزهري: فإنه تارة يوافق من قال ذلك، وتارة لا يوافقه،/بل يذكر ما دل عليه الكتاب والسنة من أن الإسلام غير الإيمان، فلما أجاب بقول الزهري قال له الميموني: قلت: يا أبا عبد الله، تفرق بين الإسلام والإيمان؟ قال: نعم، قلت: بأي شيء تحتج؟ قال: عامة الأحاديث تدل على هذا، ثم قال: (لايزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن).وقال تعالى: وأما قوله: يجعلونه مسلمًا ومؤمنًا شيئًا واحدًا، فهذا قول من يقول: الدين والإيمان شيء واحد، فالإسلام هو الدين، فيجعلون الإسلام والإيمان شيئًا واحدًا، وهذا القول قول المرجئة فيما يذكره كثير من الأئمة، كالشافعي وأبي عبيد وغيرهما، ومع هؤلاء يناظرون، فالمعروف من كلام المرجئة، الفرق بين لفظ الدين والإيمان، والفرق بين الإسلام والإيمان، ويقولون: الإسلام بعضه إيمان وبعضه أعمال، والأعمال منها فرض ونفل، ولكن كلام السلف كان فيما يظهر لهم ويصل إليهم من كلام أهل البدع كما تجدهم في الجهمية، إما يحكون عنهم أن الله في كل مكان، وهذا قول طائفة منهم كالنجارية، وهو قول عوامهم/ وعبادهم،وأما جمهور نظارهم من الجهمية،والمعتزلة،والضِّرَارية، وغيرهم، فإنما يقولون: هو لا داخل العالم ولا خارجه، ولا هو فوق العالم. وكذلك كلامهم في القدرية، يحكون عنهم إنكار العلم والكتابة، وهؤلاء هم القدرية الذين قال ابن عمر فيهم: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، وهم الذين كانوا يقولون: إن الله أمر العباد ونهاهم، وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه، ولا من يدخل الجنة ممن يدخل النار حتى فعلوا ذلك، فعلمه بعد ما فعلوه؛ ولهذا قالوا: الأمر أنف، أي:مستأنف، يقال: روض أنف إذا كانت وافرة لم ترع قبل ذلك، يعني: أنه مستأنف العلم بالسعيد والشقي، ويبتدأ ذلك من غير أن يكون قد تقدم بذلك علم ولا كتاب، فلا يكون العمل على ما قد قدر فيحتذى به حذو القدر، بل هو أمر مستأنف مبتدأ، والواحد من الناس إذا أراد أن يعمل عملاً قدر في نفسه ما يريد عمله، ثم عمله كما قدر في نفسه،وربما أظهر ما قدره في الخارج بصورته، ويسمى هذا التقدير الذي في النفس خلقًا، ومنه قول الشاعر. ولأنت تفري ما خلقت وبعــ ** ـض الناس يخلق ثم لا يفرى يقول: إذا قدرت أمرًا أمضيته وأنفذته، بخلاف غيرك فإنه عاجز عن إمضاء ما يقدره، وقال تعالى: /وأيضًا، فإنه قال للملائكة: وهذا يبين أنه علم ما سيكون منهما من مخالفة الأمر، فإن إبليس امتنع من السجود لآدم، وأبغضه فصار عدوه، فوسوس له حتى يأكل من الشجرة فيذنب آدم ـ أيضًا ـ فإنه قد تألى أنه ليغوينهم أجمعين، وقد سأل الإنظار إلى يوم يبعثون فهو حريص على إغواء آدم وذريته بكل ما أمكنه، لكن آدم تلقى من ربه كلمات فتاب عليه واجتباه ربه وهداه بتوبته، فصار لبني آدم سبيل إلى نجاتهم وسعادتهم مما يوقعهم الشيطان فيه بالإغواء، وهو التوبة، قال تعالى: وقدر الله قد أحاط بهذا كله قبل أن يكون، وإبليس أصر على الذنب،واحتج بالقدر، وسأل الإنظار ليهلك غيره،وآدم تاب وأناب، وقال هو وزوجته: والمقصود هنا ذكر القدر، وقد ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة،وكان عرشه على الماء)، وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصَيْن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذِّكْرِ كل شيء، ثم خلق السموات والأرض)، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه أخبر: (أن الله قد علم أهل الجنة من أهل النار، وما يعمله العباد قبل أن يعملوه). وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود:(إن الله يبعث ملكًا بعد خلق الجسد وقبل نفخ الروح فيه، فيكتب أجله ورزقه وعمله، وشقي أو سعيد). وهذه الأحاديث تأتي ـ إن شاء الله ـ في مواضعها، فهذا القدر هو الذي أنكره القدرية الذين كانوا في أواخر زمن الصحابة. وقد روي أن أول من ابتدعه بالعراق رجل من أهل البصرة يقال له: سيسويه من أبناء المجوس، وتلقاه عنه مَعْبَد الجُهنِيّ، ويقال: أول ما حدث في الحجاز لما احترقت الكعبة، فقال/ رجل: احترقت بقدر الله ـ تعالى ـ فقال آخر:لم يقدر الله هذا. ولم يكن على عهد الخلفاء الراشدين أحد ينكر القدر، فلما ابتدع هؤلاء التكذيب بالقدر رده عليهم من بقى من الصحابة، كعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وواثِلَة بن الأسْقَع، وكان أكثره بالبصرة والشام، وقليل منه بالحجاز، فأكثر كلام السلف في ذم هؤلاء القدرية؛ ولهذا قال وَكِيع بن الجرَّاح: القدرية يقولون: الأمر مستقبل، وأن الله لم يقدر الكتابة والأعمال، والمرجئة يقولون: القول يجزئ من العمل، والجهمية يقولون: المعرفة تجزئ من القول والعمل. قال وكيع: وهو كله كفر ورواه ابن... ولكن لما اشتهر الكلام في القدر، ودخل فيه كثير من أهل النظر والعباد، صار جمهور القدرية يقرون بتقدم العلم، وإنما ينكرون عموم المشيئة والخلق. وعن عمرو بن عبيد في إنكار الكتاب المتقدم روايتان. وقول أولئك كفرهم عليه مالك، والشافعي، وأحمد وغيرهم. وأما هؤلاء فهم مبتدعون ضالون، لكنهم ليسوا بمنزلة أولئك، وفي هؤلاء خلق كثير من العلماء والعباد كتب عنهم العلم. وأخرج البخاري ومسلم لجماعة منهم، لكن من كان داعية إليه لم يخرجوا له. وهذا مذهب فقهاء أهل الحديث كأحمد وغيره: أن من كان داعية إلى بدعة فإنه يستحق العقوبة لدفع ضرره عن الناس، وإن كان في الباطن مجتهدًا، وأقل عقوبته أن يهجر، فلا يكون له مرتبة في الدين /لا يؤخذ عنه العلم ولا يستقضى، ولا تقبل شهادته، ونحو ذلك.ومذهب مالك قريب من هذا؛ ولهذا لم يخرج أهل الصحيح لمن كان داعية، ولكن رووا هم وسائر أهل العلم عن كثير ممن كان يرى في الباطن رأى القدرية، والمرجئة والخوارج، والشيعة. وقال أحمد: لو تركنا الرواية عن القدرية لتركنا أكثر أهل البصرة، وهذا لأن [مسألة خلق أفعال العباد، وإرادة الكائنات] مسألة مشكلة. وكما أن القدرية من المعتزلة وغيرهم أخطؤوا فيها، فقد أخطأ فيها كثير ممن رد عليهم أو أكثرهم، فإنهم سلكوا في الرد عليهم مسلك جَهْمِ بن صَفْوَان، وأتباعه،فنفوا حكمة الله في خلقه وأمره، ونفوا رحمته بعباده، ونفوا ما جعله من الأسباب خلقًا وأمرًا، وجحدوا من الحقائق الموجودة في مخلوقاته وشرائعه ما صار ذلك سببًا لنفور أكثر العقلاء الذين فهموا قولهم عما يظنونه السنة، إذ كانوا يزعمون أن قول أهل السنة في القدر هو القول الذي ابتدعه جهم، وهذا لبسطه موضع آخر. وإنما المقصود هنا أن السلف في ردهم على المرجئة والجهمية والقدرية وغيرهم، يردون من أقوالهم ما يبلغهم عنهم وما سمعوه من بعضهم. وقد يكون ذلك قول طائفة منهم، وقد يكون نقلاً مغيرًا. فلهذا ردوا على المرجئة الذين يجعلون الدين والإيمان واحدًا، ويقولون هو القول. وأيضًا، فلم يكن حدث في زمنهم من المرجئة من يقول: الإيمان هو مجرد القول بلا تصديق ولا معرفة/في القلب. فإن هذا إنما أحدثه ابن كُرَّام، وهذا هو الذي انفرد به ابن كرام. وأما سائر ما قاله، فأقوال قيلت قبله، ولهذا لم يذكر الأشعري، ولا غيره ممن يحكى مقالات الناس عنه قولاً انفرد به إلا هذا. وأما سائر أقواله فيحكونها عن ناس قبله ولا يذكرونه، ولم يكن ابن كرام في زمن أحمد بن حنبل، وغيره من الأئمة؛ فلهذا يحكون إجماع الناس على خلاف هذا القول، كما ذكر ذلك أبو عبد الله أحمد بن حنبل وأبو ثور وغيرهما. وكان قول المرجئة قبله: إن الإيمان قول باللسان وتصديق بالقلب، وقول جهم: إنه تصديق القلب، فلما قال ابن كرام: إنه مجرد قول اللسان صارت أقوال المرجئة ثلاثة، لكن أحمد كان أعلم بمقالات الناس من غيره، فكان يعرف قول الجهمية في الإيمان، وأما أبو ثور، فلم يكن يعرفه، ولا يعرف إلا مرجئة الفقهاء، فلهذا حكى الإجماع على خلاف قول الجهمية والكرامية. قال أبو ثور في رده على المرجئة ـ كما روى ذلك أبو القاسم الطبري اللالكائي وغيره ـ عن إدريس بن عبد الكريم قال: سأل رجل من أهل خُرَاسَان أبا ثور عن الإيمان وما هو، أيزيد وينقص؟ وقول هو أو قول وعمل؟ أو تصديق وعمل؟ فأجابه أبو ثور بهذا فقال: سألت ـ رحمك الله وعفا عنا وعنك ـ عن الإيمان ما هو، يزيد وينقص؟ وقول هو أو قول وعمل أو تصديق وعمل؟ فأخبرك بقول الطوائف واختلافهم. /اعلم ـ يرحمنا الله وإياك ـ أن الإيمان تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، وذلك أنه ليس بين أهل العلم خلاف في رجل لو قال: أشهد أن الله ـ عز وجل ـ واحد، وأن ما جاءت به الرسل حق، وأقر بجميع الشرائع، ثم قال: ما عقد قلبي على شيء من هذا، ولا أصدق به أنه ليس بمسلم، ولو قال: المسيح هو الله وجحد أمر الإسلام، ثم قال: لم يعقد قلبي على شيء من ذلك أنه كافر بإظهار ذلك وليس بمؤمن، فلما لم يكن بالإقرار إذا لم يكن معه التصديق مؤمنًا، ولا بالتصديق إذا لم يكن معه الإقرار مؤمنًا، حتى يكون مصدقًا بقلبه مقرًا بلسانه، فإذا كان تصديقًا بالقلب وإقرارًا باللسان، كان عندهم مؤمنًا، وعند بعضهم لا يكون مؤمنًا حتى يكون مع التصديق عمل، فيكون بهذه الأشياء إذا اجتمعت مؤمنًا، فلما نفوا أن يكون الإيمان بشيء واحد، وقالوا: يكون بشيئين في قول بعضهم، وثلاثة أشياء في قول غيرهم. لم يكن مؤمنًا إلا بما أجمعوا عليه من هذه الثلاثة الأشياء، وذلك أنه إذا جاء بهذه الثلاثة الأشياء، فكلهم يشهد أنه مؤمن، فقلنا بما أجمعوا عليه من التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح. فأما الطائفة التي ذهبت إلى أن العمل ليس من الإيمان، فيقال لهم: ماذا أراد الله من العباد إذ قال لهم: أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، الإقرار بذلك أو الإقرار والعمل؟ فإن قالت: إن الله أراد الإقرار ولم يرد العمل،فقد كفرت عند أهل العلم من قال: إن الله لم يرد من العباد أن يصلوا ولا يؤتوا الزكاة؟ وإن قالت: أراد منهم الإقرار قيل: فإذا كان أراد منهم الأمرين جميعًا/ لم زعمتم أنه يكون مؤمنًا بأحدهما دون الآخر، وقد أرادهما جميعًا؟ أرأيتم لو أن رجلاً قال: أعمل جميع ما أمر به الله ولا أقر به، أيكون مؤمنًا؟ فإن قالوا: لا. قيل لهم: فإن قال: أقر بجميع ما أمر الله به، ولا أعمل به، أيكون مؤمنًا؟ فإن قالوا: نعم. قيل: ما الفرق؟ فقد زعمتم أن الله أراد الأمرين جميعًا، فإن جاز أن يكون بأحدهما مؤمنًا إذا ترك الآخر، جاز أن يكون بالآخر إذا عمل به ولم يقر مؤمنًا، لا فرق بين ذلك. فإن احتج فقال: لو أن رجلاً أسلم فأقر بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أيكون مؤمنًا بهذا الإقرار قبل أن يجيء وقت عمل؟ قيل له: إنما يطلق له الاسم بتصديقه أن العمل عليه بقوله أن يعمله في وقته إذا جاء، وليس عليه في هذا الوقت الإقرار بجميع ما يكون به مؤمنًا، ولو قال: أقر ولا أعمل لم يطلق عليه اسم الإيمان. قلت ـ يعني الإمام أبو ثور ـ رحمه الله ـ: إنه لا يكون مؤمنًا إلا إذا التزم بالعمل مع الإقرار، وإلا فلو أقر ولم يلتزم العمل لم يكن مؤمنًا. وهذا الاحتجاج الذي ذكره أبو ثور هو دليل على وجوب الأمرين: الإقرار والعمل، وهو يدل على أن كلا منهما من الدين، وأنه لا يكون مطيعًا لله، ولا مستحقًا للثواب ولا ممدوحًا عند الله ورسوله إلا بالأمرين جميعًا، وهو حجة على من يجعل الأعمال خارجة عن الدين والإيمان جميعًا. وأما من يقول: إنها من الدين، ويقول: إن الفاسق مؤمن حيث أخذ ببعض الدين وهو الإيمان عندهم، وترك بعضه؛ فهذا يحتج عليه بشيء آخر، لكن أبو ثور وغيره من علماء السنة عامة احتجاجهم مع هذا الصنف، وأحمد كان أوسع علمًا بالأقوال والحجج من/ أبي ثور. ولهذا إنما حكى الإجماع على خلاف قول الكرامية، ثم إنه تورع في النطق على عادته، ولم يجزم بنفي الخلاف؛ لكن قال: لا أحسب أحدًا يقول هذا، وهذا في رسالته إلى أبي عبد الرحيم الجوزجاني، ذكرها الخلال في كتاب [السنة]، وهو أجمع كتاب يذكر فيه أقوال أحمد في مسائل الأصول الدينية، وإن كان له أقوال زائدة على ما فيه، كما أن كتابه في العلم أجمع كتاب يذكر فيه أقوال أحمد في الأصول الفقهية. قال المروزي: رأيت أبا عبد الرحيم الجوزجاني عند أبي عبد الله، وقد كان ذكره أبو عبد الله فقال: كان أبوه مرجئًا، أو قال: صاحب رأي. وأما أبو عبد الرحيم فأثنى عليه، وقد كان كتب إلى أبي عبد الله من خراسان يسأله عن الإيمان وذكر الرسالة من طريقين عن أبي عبد الرحيم، بسم الله الرحمن الرحيم. أحسن الله إلينا وإليك في الأمور كلها، وسلمنا وإياك من كل شر برحمته، أتاني كتابك تذكرما تذكر من احتجاج من احتج من المرجئة. واعلم ـ رحمك الله ـ أن الخصومة في الدين ليست من طريق أهل السنة، وأن تأويل من تأول القرآن بلا سنة تدل على معنى ما أراد الله منه، أو أثر عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعرف ذلك بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، أوعن أصحابه، فهم شاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم وشهدوا تنزيله، وما قصه الله له في القرآن، وماعني به، وما أراد به أخاص هو أم /عام، فأما من تأوله على ظاهره بلا دلالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة، فهذا تأويل أهل البدع؛ لأن الآية قد تكون خاصة ويكون حكمها حكمًا عامًا، ويكون ظاهرهاعلى العموم، وإنما قصدت لشيء بعينه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو المعبر عن كتاب الله وما أراد، وأصحابه أعلم بذلك منا، لمشاهدتهم الأمر وما أريد بذلك، فقد تكون الآية خاصة، أي معناها مثل قوله تعالى: وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ـ وليس بالثبت ـ إلا أنه عن أصحابه أنهم لم يورثوا قاتلاً، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المعبر عن الكتاب أن الآية إنما قصدت للمسلم لا للكافر، ومن حملها على ظاهرها لزمه أن يورث من وقع عليه اسم الولد كافرًا كان أو قاتلا، وكذلك أحكام الوارث من الأبوين وغير ذلك مع آي كثير يطول بها الكتاب، وإنما استعملت الأمة السنة من النبي صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه، إلا من دفع ذلك من أهل البدع والخوارج وما يشبههم، فقد رأيت إلى ما خرجوا. قلت: لفظ المجمل والمطلق والعام كان في اصطلاح الأئمة، كالشافعي وأحمد، وأبي عبيد وإسحاق وغيرهم سواء، لا يريدون بالمجمل ما لا يفهم منه، كما فسره به بعض المتأخرين وأخطأ في ذلك، بل المجمل ما لا يكفي وحده في/ العمل به وإن كان ظاهره حقًا، كما في قوله تعالى: وكذلك التمسك بالأقيسة مع الإعراض عن النصوص والآثار طريق أهل البدع؛ولهذا كان كل قول ابتدعه هؤلاء قولاً فاسدًا، وإنما الصواب من أقوالهم ما وافقوا فيه السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وقوله تعالى: قال أحمد: وأما من زعم أن الإيمان الإقرار، فما يقول في المعرفة؟ هل يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار؟ وهل يحتاج أن يكون مصدقًا بما عرف؟ فإن زعم أنه يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار فلقد زعم أنه من شيئين، وإن زعم أنه يحتاج أن يكون مقرًا ومصدقًا بما عرف فهو من ثلاثة أشياء، وإن جحد وقال: لا يحتاج إلى المعرفة والتصديق، فقد قال قولاً عظيمًا، ولا أحسب أحدًا يدفع المعرفة والتصديق وكذلك العمل مع هذه الأشياء. قلت: أحمد وأبو ثور وغيرهما من الأئمة كانوا قد عرفوا أصل قول المرجئة،وهو: أن الإيمان لا يذهب بعضه ويبقى بعضه، فلا يكون إلا شيئًا واحدًا فلا يكون ذا عدد؛ اثنين أو ثلاثة، فإنه إذا كان له عدد، أمكن ذهاب بعضه وبقاء بعضه، بل لا يكون إلا شيئًا واحدًا، ولهذا قالت الجهمية: إنه شيء واحد في القلب. وقالت الكرامية: إنه شيء واحد على اللسان، كل ذلك فرارًا من/ تبعض الإيمان وتعدده، فلهذا صاروا يناظرونهم بما يدل على أنه ليس شيئًا واحدًا، كما قلتم، فأبو ثور احتج بما اجتمع عليه الفقهاء المرجئة، من أنه تصديق وعمل، ولم يكن بلغه قول متكلميهم وجهميتهم، أو لم يعد خلافهم خلافًا، وأحمد ذكر أنه لابد من المعرفة والتصديق مع الإقرار، وقال: إن من جحد المعرفة والتصديق فقد قال قولاً عظيمًا، فإن فساد هذا القول معلوم من دين الإسلام؛ ولهذا لم يذهب إليه أحد قبل الكرامية، مع أن الكرامية لا تنكر وجوب المعرفة والتصديق، ولكن تقول: لا يدخل في اسم الإيمان حذرًا من تبعضه وتعدده؛ لأنهم رأوا أنه لا يمكن أن يذهب بعضه ويبقى بعضه، بل ذلك يقتضي أن يجتمع في القلب إيمان وكبر، واعتقدوا الإجماع على نفي ذلك، كما ذكر هذا الإجماع الأشعري وغيره.
|